الوسواس القهري الديني: فهم أعمق لمشكلة معقدة
الوسواس القهري الديني هو أحد أشكال اضطراب الوسواس القهري، ويتميز بأفكار متكررة وتطفلية تفرض نفسها على المريض دون إرادته، مما يسبب له القلق والتوتر. عندما يرتبط الوسواس بالمعتقدات الدينية، قد يشعر المريض بأفكار تطعن في العقيدة، أو تشكك في عباداته، أو يصاب بالذعر من عدم أداء واجباته الدينية بشكل كامل.
الأصل الشرعي: هل يحاسب الإنسان على الوساوس؟
الإسلام، بمرونته وعدالته، يميز بين الأفعال والأفكار التي تخضع لإرادة الإنسان وتلك الخارجة عن إرادته. الوسواس القهري الديني يدخل ضمن الأفكار التسلطية التي لا يستطيع المريض منعها أو التحكم بها. لذلك، لا يُحاسب الإنسان على ما يدور في نفسه ما دام لا يتبناه أو يترجمه إلى أفعال.
قال النبي ﷺ:
“إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم” (رواه البخاري ومسلم).
هذا الحديث يؤكد أن الله لا يحاسب الإنسان على الأفكار العابرة التي لا يستطيع التحكم بها، مما يشمل الوساوس الدينية.
الوساوس الدينية دليل على صريح الإيمان
جاء في الحديث الشريف أن بعض الصحابة اشتكوا إلى النبي ﷺ من وساوس خطرت ببالهم في أمور العقيدة، وشعروا بالخوف من أنها قد تخرجهم من الإسلام. فكان رد النبي ﷺ مُطمئنًا لهم، إذ قال:
“أَوَقد وجدتموه؟” قالوا: نعم. قال: “ذلك صريح الإيمان” (رواه مسلم).
دلالات الحديث:
- الخوف من الوساوس دليل على الإيمان: المؤمن الحقيقي هو من يخاف على دينه ويشعر بالقلق إذا راودته أفكار تخالف عقيدته، وهذا يدل على صدق إيمانه.
- الوساوس ليست من صنع المريض: النبي ﷺ لم يُنكر على الصحابة وجود هذه الأفكار، بل بيّن أنها ليست صادرة عنهم بإرادتهم، وإنما هي وساوس يمكن مقاومتها وتجاهلها.
الفهم الطبي والنفسي للوسواس القهري
لفهم الوسواس القهري بشكل أفضل، يجب الإشارة إلى أنه اضطراب نفسي مرتبط بخلل في كيمياء الدماغ، خاصة في مادة السيروتونين. هذا الخلل يؤدي إلى:
-
-
- ظهور أفكار تطفلية قهرية.
- شعور بعدم القدرة على التخلص منها.
- زيادة القلق والتوتر الناتج عن تلك الأفكار.
-
عندما تكون الوساوس دينية، فإنها لا تعكس ضعف الإيمان، بل تعكس طبيعة اضطراب الوسواس القهري. على سبيل المثال:
-
-
- قد تراود المريض أفكار تطعن في العقيدة أو تخطر بباله ألفاظ كفرية، ولكنه يشعر بالخوف الشديد من هذه الأفكار ويحاول مقاومتها.
- قد يشك المريض في صحة وضوئه أو صلاته، ويعيدهما مرارًا وتكرارًا رغم أنه أداهما بشكل صحيح.
-
الوسواس القهري ليس كفرًا
من المنظور الشرعي، الوساوس التي تأتي للمريض ليست دليلاً على الكفر لأنها:
- خارج الإرادة: الكفر يتطلب الإرادة والقصد، أما الوسواس فهو اضطراب قهري خارج عن سيطرة المريض.
- مصدرها اضطراب نفسي: العلماء والأطباء النفسيون يؤكدون أن هذه الأفكار هي نتيجة خلل دماغي، وليست تعبيرًا عن معتقد أو قناعة.
- رحمة الله بعباده: الإسلام لا يُكلف الإنسان فوق طاقته، قال تعالى:
“لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا” (سورة البقرة: 286).
- ذلك صريح الإيمان: كما أوضح النبي ﷺ، فإن الوساوس الدينية قد تكون دليلاً على قوة الإيمان، لأن المريض يشعر بالضيق الشديد منها ويخشى الوقوع في الكفر.
كيف يتعامل مريض الوسواس القهري مع حالته؟
- التجاهل وعدم الاسترسال: يُنصح المريض بعدم التفاعل مع الوساوس أو محاولة مقاومتها بشكل مفرط، لأن التركيز عليها يزيد من حدتها.
- اللجوء إلى الله بالدعاء والاستعاذة:
-
- الدعاء بأن يرفع الله عنه هذا البلاء.
- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند ورود الوساوس.
-
- تذكير النفس برحمة الله: على المريض أن يطمئن بأن الله يعرف نيته وقلبه، وأنه لا يُحاسب على ما لا يستطيع التحكم فيه.
- العلاج الطبي والنفسي: الوسواس القهري هو اضطراب نفسي يمكن علاجه عن طريق:
-
- الأدوية: مثل مضادات الاكتئاب التي تساعد على استعادة توازن السيروتونين.
- العلاج السلوكي المعرفي: الذي يهدف إلى مساعدة المريض على فهم الوساوس والتعامل معها بطرق أكثر صحة.
-
- استشارة أهل العلم: التحدث إلى علماء الدين الموثوقين لطمأنة المريض وتوضيح الأحكام الشرعية المتعلقة بحالته.
دور المجتمع في دعم مريض الوسواس القهري
المجتمع له دور كبير في دعم المرضى النفسيين، خصوصًا الذين يعانون من الوساوس الدينية. يجب أن:
-
-
- نتجنب إطلاق الأحكام: لا يجوز وصف مريض الوسواس القهري بالكفر أو ضعف الإيمان، لأن حالته خارجة عن إرادته.
- نوفر بيئة آمنة: تشجيع المريض على طلب العلاج النفسي دون خجل أو وصمة.
- نقدم الدعم النفسي: من خلال التخفيف عنه بالكلمة الطيبة والتأكيد على أن ما يعاني منه مؤقت وقابل للعلاج.
-
الخلاصة
مريض الوسواس القهري الديني ليس كافرًا، بل هو مبتلى باضطراب نفسي يحتاج إلى علاج ودعم. الأفكار التي تراوده ليست نابعة من إرادته، بل هي نتيجة خلل كيميائي في الدماغ، كما أن انزعاجه منها وخوفه من الوقوع في الكفر هو دليل على إيمانه العميق.
قال تعالى:
“إِنَّ اللَّهَ لا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا” (سورة الطلاق: 7).
لذا، يجب على المريض ألا يشعر بالذنب أو الخوف، بل يسعى للعلاج ويتوكل على الله الذي وسعت رحمته كل شيء.

لا تعليق