اضطراب الشخصية الحدية (BPD) هو أحد أكثر الاضطرابات النفسية تعقيدًا وتأثيرًا على حياة الفرد، ويتسم بتقلّبات عاطفية شديدة، اندفاعية، وصعوبة في العلاقات. كثير من الباحثين والمعالجين يطرحون السؤال المهم: هل جذور هذا الاضطراب تعود إلى الطفولة؟
في هذا المقال، نستعرض الأدلة العلمية والنفسية التي تشير إلى دور الطفولة المبكرة في تشكّل اضطراب الشخصية الحدية، ونناقش كيف يمكن أن تؤثر البيئة الأسرية، والتجارب الصادمة، وأنماط التعلّق على نمو الشخصية وتنظيم العاطفة.
ما هو اضطراب الشخصية الحدية؟ باختصار
قبل الخوض في الأسباب، من المهم أن نُلقي نظرة سريعة على طبيعة الاضطراب.
BPD هو اضطراب في الشخصية يتميز بـ:
-
-
-
اضطراب في الهوية والصورة الذاتية
-
مشاعر حادة ومتقلّبة
-
اندفاعية في السلوك (مثل الأكل، العلاقات، المال)
-
خوف شديد من الهجر
-
علاقات عاطفية متقلبة
-
سلوكيات إيذاء النفس أو التفكير في الانتحار
-
صعوبة في تنظيم المشاعر وتحمل الألم النفسي
-
-
هل للطفولة علاقة بالأمر؟ الإجابة: نعم، بدرجة كبيرة
تتفق معظم النظريات النفسية الحديثة على أن الطفولة تلعب دورًا محوريًا في تشكّل اضطراب الشخصية الحدية، خاصةً في البيئات التي يتعرض فيها الطفل للإهمال العاطفي أو سوء المعاملة. لنلقِ نظرة على الجوانب المختلفة التي تدعم هذه العلاقة.
1. الصدمة النفسية المبكرة
العديد من المصابين باضطراب الشخصية الحدية يُظهرون في تاريخهم الشخصي تجارب صادمة في الطفولة، منها:
-
-
-
الاعتداء الجسدي أو الجنسي
-
الإهمال العاطفي أو الجسدي
-
فقدان أحد الوالدين أو غيابه المفاجئ
-
العيش في بيئة أسرية فوضوية أو مضطربة
-
التعرض للرفض المتكرر أو التخلي من قبل القائمين بالرعاية
-
-
هذه الصدمات تترك آثارًا عميقة في جهاز التعلّم العاطفي في الدماغ، وتؤثر على قدرة الطفل على الشعور بالأمان والثقة.
2. البيئة العائلية غير المستقرة
الطفل الذي ينشأ في بيت تسوده الصراعات، الغضب، الإهمال، أو القسوة المفرطة، يتعلم أن العالم غير آمن، وأن العاطفة تهدد الاستقرار.
في هذه البيئات:
-
-
-
لا يتعلم الطفل كيف يهدئ نفسه
-
لا يكتسب مهارات حل المشكلات أو التعبير عن المشاعر
-
يُجبر أحيانًا على إنكار أو كبت مشاعره، فينشأ بداخل صراع بين “ما أشعر به” و”ما يُسمح لي أن أُظهره”
-
-
هذه الديناميكية تخلق فجوة في تنظيم المشاعر لاحقًا في الحياة، وهي سمة مركزية في BPD.
3. نمط التعلّق غير الآمن
أحد أهم العوامل النفسية المرتبطة بتكوّن BPD هو نمط التعلّق المبكر بين الطفل ومقدمي الرعاية، خاصة الأم أو الأب.
-
-
-
الطفل الذي يتلقى رعاية غير متوقعة (مثلاً: احتواء في وقت وغضب في وقت آخر على نفس السلوك) يتعلّم أن الحب غير مضمون.
-
هذا يُنتج نمط “تعلّق غير آمن”، ينعكس في الرغبة الشديدة في القرب من الآخرين، متبوعة بخوف شديد من الهجر.
-
-
هذا ما نراه في البالغ المصاب بـBPD: يحب بشدة، يخاف من فقدان العلاقة، ثم ينهار عاطفيًا عند أي تلميح للرفض.
4. نقص الانعكاس العاطفي (Emotional Mirroring)
في مراحل الطفولة الأولى، يحتاج الطفل إلى من يعكس له مشاعره:
-
-
-
“أنت زعلان؟ أنا حاسس بيك.”
-
“يبدو أنك خفت… هذا طبيعي.”
-
-
هذا يسمى الانعكاس العاطفي، وهو أساسي لبناء “وعي الذات” وتنظيم العواطف.
في غياب هذا الانعكاس (كما في حالات الإهمال العاطفي)، ينشأ الطفل دون فهم واضح لمشاعره، فيُصبح عرضة للفوضى الداخلية.
5. الوراثة والتكوين البيولوجي
لا يمكن إغفال الجانب البيولوجي. بعض الأطفال يولدون بطبيعة أكثر حساسية عاطفية أو أقل قدرة على التحكم في الاندفاع.
إذا وُضع هذا الطفل الحساس في بيئة داعمة، قد يتعلم كيف ينظم عواطفه. لكن إذا وُضع في بيئة مؤذية، فقد تتفاقم تلك السمات وتتحول إلى اضطراب.
البيئة لا تعمل بمعزل عن الجينات، بل تتفاعل معها.
دراسات تدعم العلاقة بين الطفولة وBPD
-
-
-
دراسة نشرت في Journal of Personality Disorders وجدت أن أكثر من 80% من البالغين المصابين بـBPD لديهم تاريخ من الإهمال أو الإساءة في الطفولة.
-
دراسات أخرى وجدت أن اضطراب التعلّق في الطفولة هو مؤشر تنبؤي قوي لاحتمالية تطور BPD لاحقًا.
-
الفتيات اللواتي تعرضن لإيذاء جنسي في الطفولة أكثر عرضة للإصابة بـBPD في سن الرشد مقارنة بغيرهن.
-
-
هل يمكن الوقاية أو التدخل المبكر؟
نعم، بشكل كبير، إذا توفرت عوامل الحماية المناسبة، مثل:
-
-
-
وجود شخص بالغ داعم في حياة الطفل (حتى لو لم يكن أحد الوالدين)
-
التعرف المبكر على علامات الاضطراب في المراهقة
-
العلاج الأسري أو علاج الطفل الذي يُظهر مشاكل تنظيم عاطفي مبكرًا
-
تشجيع التربية الواعية والانتباه لاحتياجات الطفل النفسية
-
-
خطوات نحو الشفاء تبدأ من فهم الماضي
العديد من البالغين الذين يُشخّصون بـBPD لا يدركون أن ما يعانونه اليوم مرتبط بجراح الطفولة.
الفهم ليس كافيًا وحده، لكنه أول خطوة في رحلة الشفاء. من خلال العلاج النفسي المناسب، يمكن للشخص أن:
-
-
-
يعيد بناء صورة ذاته
-
يتعلم أدوات لتنظيم العاطفة
-
يتجاوز الألم العاطفي المزمن
-
يخلق علاقات أكثر استقرارًا ووعيًا
-
-
خاتمة
اضطراب الشخصية الحدية لا ينشأ من فراغ، بل غالبًا ما يكون انعكاسًا لصدمات الطفولة، والإهمال، وغياب الرعاية النفسية المبكرة.
معرفة هذه الجذور لا تهدف إلى إلقاء اللوم على الأهل، بل إلى فهم أعمق للاضطراب، وفتح الباب أمام الشفاء.
كل طفل يُولد بحاجة إلى الحب، والأمان، والانتباه. وعندما يُحرم من هذه الحاجات، تنكسر أجنحته في صمت… لكنه يستطيع أن يُعيد بناءها، مهما تأخر الوقت.
الطفولة قد تفسر الاضطراب، لكنها لا تحكم المصير.

لا تعليق