في رحلة الإنسان لفهم نفسه، كثيرًا ما يبحث عن إجابات في الخارج: في الكتب، في الآخرين، في النجاحات أو حتى الإخفاقات. لكنه قد يغفل عن أهم أدوات هذه الرحلة: الوعي والقبول. فهما المفتاح الحقيقي لفهم الذات، وبناء علاقة صحية وعميقة مع النفس.
في هذا المقال، سنتناول مفهوم الوعي والقبول، لماذا هما ضروريان، كيف نمارسهما، وسندعمهما بأمثلة عملية من الحياة اليومية.
أولًا: ما المقصود بالوعي الذاتي؟
الوعي الذاتي هو أن تكون حاضرًا مع نفسك، وأن تلاحظ ما تفكر فيه، ما تشعر به، وكيف تتصرف… دون أن تكون على وضع “الطيار الآلي”.
هو أن تسأل:
-
-
-
ماذا أشعر الآن؟ ولماذا؟
-
ما الأفكار التي تسيطر عليّ؟
-
كيف أتصرف؟ وهل هذا التصرف يعكس قيمي؟
-
-
الوعي لا يعني الانتقاد، بل الملاحظة الهادئة دون إصدار حكم.
مثال: ندى ورد فعلها في الشجار
ندى لاحظت أنها عندما تختلف مع خطيبها، تصبح دفاعية بشكل سريع، وتهاجمه بكلمات جارحة. في البداية، كانت تبرر لنفسها: “هو اللي بيغلط”، “أنا بس بردّ”.
لكن مع الوقت بدأت تمارس الوعي، ولاحظت:
“كل مرة أشعر فيها أنه يرفض رأيي، أشعر أني غير مهمة، فأنفجر.”
هذا الوعي لم يُشعرها بالذنب، بل فتح لها بابًا للفهم والتغيير.
ثانيًا: ما المقصود بالقبول؟
القبول لا يعني الاستسلام أو الرضا السلبي، بل هو:
الاعتراف بما هو موجود الآن دون مقاومة أو إنكار أو قمع.
القبول هو أن تقول:
“أنا الآن أشعر بالحزن… وهذا طبيعي.”
بدل أن تقول: “مافيش داعي أزعل. المفروض أكون أقوى.”
هو أن تستقبل مشاعرك، وأفكارك، وتجاربك، كما هي، دون أن تعتبرها “عيبًا” أو “ضعفًا”.
مثال: كريم والخوف من الفشل
كريم كان يخاف جدًا من تقديم مشروعه أمام الآخرين. كان دائمًا يتفادى الظهور، ويقول لنفسه: “أنا مش قدها، ومش جاهز.”
لكن عندما بدأ في جلسات العلاج النفسي، اكتشف أن خلف هذا الخوف شعورًا عميقًا بالخجل من النقد.
بدأ كريم يقول لنفسه:
“نعم، أنا خائف. لكن لا بأس أن أشعر بذلك. الخوف لا يجعلني فاشلًا. إنه إنساني.”
هذا القبول خفّف التوتر، وساعده على المحاولة بدلًا من الهروب.
لماذا نحتاج إلى الوعي والقبول معًا؟
لأن الوعي وحده قد يتحوّل إلى نقد قاسٍ للذات.
ولأن القبول بدون وعي قد يصبح رضوخًا لما لا نريده.
لكن عندما ندمجهما، يحدث التحوّل:
-
-
-
نلاحظ أفكارنا ومشاعرنا (وعي)
-
ثم نعترف بها دون مقاومة (قبول)
-
ثم نقرر كيف نتصرف (اختيار واعٍ)
-
-
مثال عملي: نجلاء والغيرة
نجلاء كانت تشعر بالغيرة من زميلتها التي تنال التقدير في العمل. كانت تكره هذا الشعور، وتعتبره “سخيفًا”.
لكنها بدأت تلاحظ:
“أنا أشعر بالغيرة لأنها تنال ما أريده، وأنا أشعر أني لا أُقدَّر كفاية.”
عندما قبلت هذا الشعور، بدلًا من قمعه، استطاعت أن تسأل نفسها:
“ما الذي أحتاجه؟ كيف أعبّر عن نفسي وأطالب بحقي؟”
هنا حدث التغيير الفعلي.
هل القبول يعني عدم التغيير؟
بالعكس.
القبول لا يعني أن ترضى بكل شيء، بل أن تبدأ من الواقع، لا من الإنكار.
إذا كنت غاضبًا، فبدل أن تنكر الغضب أو تخجل منه، تقبله، ثم تسأل:
“كيف أعبر عن غضبي بطريقة لا تؤذي؟”
إذا كنت تشعر بالغيرة، فبدل أن تهاجم الآخرين، تعترف بها، ثم تسأل:
“ما الذي ينقصني؟ وكيف أعمل على تطوير نفسي؟”
مثال يومي بسيط: الزحام في الطريق
أنت في طريق مزدحم، تشعر بالغضب والتوتر.
-
-
-
الوعي: “أنا الآن غاضب لأن التأخير سيضر مواعيدي.”
-
القبول: “من الطبيعي أن أنزعج، لكن لا يمكنني تغيير الواقع الآن.”
-
السلوك الواعي: “سأستخدم هذا الوقت للاستماع إلى بودكاست، أو أتنفّس بعمق.”
-
-
هكذا تتحوّل لحظة سلبية إلى لحظة فيها هدوء ومرونة.
كيف أمارس الوعي والقبول في حياتي اليومية؟
-
خذ لحظة للانتباه: قبل أن ترد، قبل أن تتصرف… اسأل: ماذا أشعر؟ ماذا أفكر؟
-
دوّن ما تمر به: الكتابة اليومية تساعد على الملاحظة دون حكم.
-
تجنّب العبارات السلبية عن نفسك: مثل “أنا فاشل” أو “مافيش فايدة فيّ”.
-
تحدث مع نفسك كما تتحدث مع صديق: بلطف، بتفهم، دون قسوة.
-
تذكّر أن المشاعر لا تدوم: لا حزن يدوم للأبد، ولا فرح كذلك. كل شيء يمر.
التأمل واليقظة الذهنية (Mindfulness)
واحدة من أهم الطرق لتقوية الوعي والقبول هي ممارسة اليقظة الذهنية، والتي تقوم على:
-
-
-
ملاحظة اللحظة الحالية
-
قبولها كما هي
-
دون مقاومة أو تصنيف
-
-
يمكنك البدء بـ5 دقائق يوميًا من التنفس الواعي، أو حتى بملاحظة المشاعر دون اندماج فيها.
لماذا يصعب أحيانًا أن نقبل أنفسنا؟
لأننا تعلمنا منذ الصغر أن نُخفي مشاعرنا، أن نخجل من “الضعف”، وأن نربط قيمتنا بالنجاح فقط.
لكن الحقيقة أن:
كل مشاعرنا لها حق في الوجود
وقيمتنا لا تتغيّر لمجرد أننا نمر بلحظات ضعف
خاتمة: فهم الذات يبدأ بالصدق معها
لا يمكنك أن تفهم نفسك بصدق، أو تغيّرها بعمق، إن لم تكن أولًا حاضرًا معها (وعيًا)، ثم متصالحًا معها (قبولًا).
الوعي هو عين البصيرة، والقبول هو قلب الرحمة.
وحين يجتمعان، تكتشف أن ذاتك ليست عدوًا، بل صديقًا يستحق أن تُنصت له، وتحتويه، وترافقه بلطف في رحلة الحياة.

لا تعليق