اضطراب الوسواس القهري (Obsessive-Compulsive Disorder) هو حالة نفسية معقدة تُعرف بوجود أفكار وسواسية متكررة وسلوكيات قهرية يُجبر المريض على أدائها. لفهم هذه الحالة، من الضروري تحليل المعتقدات المعرفية التي تشكل أساس الوساوس والسلوكيات. هذه المعتقدات، والتي غالبًا ما تكون غير منطقية، تفسر الطريقة التي يفكر بها المريض وتتسبب في دوامة القلق والتصرفات القهرية.


المعتقدات المعرفية الأساسية لمرضى الوسواس القهري

1. المسؤولية المفرطة (Excessive Responsibility)

هذا الاعتقاد يجعل المريض يشعر بأنه مسؤول بشكل كامل عن منع أي كارثة أو ضرر قد يحدث، حتى لو كان الاحتمال ضعيفًا أو غير واقعي.

أمثلة:

      • يشعر المريض أنه إذا لم يتحقق من قفل الباب خمس مرات على الأقل، فقد يؤدي ذلك إلى دخول لص وإيذاء عائلته.
      • يعتقد شخص آخر أنه إذا لم يدعو لأحد أحبائه عند كل صلاة، فقد يتعرض هذا الشخص لحادث مميت، ويشعر بأنه المسؤول عن ذلك.

كيف يؤثر ذلك؟

يجعل هذا الاعتقاد المريض يشعر بثقل كبير، وكأن كل شيء يعتمد على تصرفاته. ينتج عن ذلك سلوكيات قهرية مثل التحقق المستمر أو أداء طقوس محددة لتجنب الكارثة المتوقعة.


2. المبالغة في تقدير التهديد (Overestimation of Threat)

يرى المريض أن الخطر في كل مكان ويضخم الاحتمالات والأضرار المحتملة لأي موقف.

أمثلة:

      • إذا لمس شخص مصاب بالوسواس القهري مقبض باب عام، قد يعتقد أن الجراثيم ستصيبه بمرض قاتل.
      • قد يرى أن ترك موقد الغاز دون التحقق منه عشرات المرات سيؤدي بالتأكيد إلى حريق.

كيف يؤثر ذلك؟

هذا الاعتقاد يدفع المريض إلى تجنب مواقف معينة، مثل استخدام المواصلات العامة أو زيارة أماكن مزدحمة، أو ممارسة طقوس مطولة للتحقق والتنظيف.


3. عدم تحمل الشك (Intolerance of Uncertainty)

يعاني المريض من صعوبة في قبول الغموض أو الشك، ويسعى إلى التأكد المطلق في كل الأمور.

أمثلة:

      • قد يتحقق المريض مرارًا من قفل الباب لأنه لا يستطيع تحمل فكرة أن يكون الباب غير مغلق تمامًا.
      • يرسل بريدًا إلكترونيًا عدة مرات للتأكد من وصوله، لأنه لا يستطيع تحمل الشك في أن الرسالة قد لم تصل.

كيف يؤثر ذلك؟

يؤدي هذا الاعتقاد إلى سلوكيات تحقق متكررة وطلب مستمر للطمأنينة من الآخرين، مما يعزز الوسواس بدلاً من تقليله.


4. الكمالية (Perfectionism)

يميل بعض المرضى إلى الاعتقاد بأنه يجب أن تكون كل الأمور خالية من الأخطاء وبالطريقة “المثالية” تمامًا.

أمثلة:

      • يعتقد المريض أن ترتيب الكتب أو الملابس بطريقة غير متماثلة قد يسبب فوضى في حياته.
      • إذا أخطأ في كتابة جملة أو قام بعمل بسيط بشكل غير مثالي، قد يشعر بقلق شديد ويضطر إلى إعادة العمل من البداية.

كيف يؤثر ذلك؟

هذا الاعتقاد يجعل المريض يقضي ساعات طويلة في أداء مهام بسيطة، مما يؤثر على حياته اليومية بشكل كبير.


5. أهمية الأفكار (Importance of Thoughts)

يرى المرضى أن مجرد وجود فكرة سيئة يعني أنها حقيقية أو تحمل دلالة أخلاقية.

أمثلة:

      • إذا راودت المريض فكرة غير مرغوبة عن إيذاء شخص، يعتقد أنها تعني أنه شخص سيء أو قد يقوم بذلك بالفعل.
      • قد يشعر بالذنب إذا راودته أفكار دينية غير لائقة، ويعتقد أنها دليل على ضعف إيمانه.

كيف يؤثر ذلك؟

هذا الاعتقاد يجعل المريض يشعر بالعار والذنب ويزيد من محاولاته قمع أو التخلص من هذه الأفكار، مما يؤدي إلى تفاقم الوسواس.


6. السيطرة على الأفكار (Need to Control Thoughts)

يعتقد المريض أنه يجب عليه التحكم التام في كل أفكاره، خاصة الأفكار غير المرغوبة أو السلبية.

أمثلة:

      • إذا لم يستطع المريض التوقف عن التفكير في حادثة معينة، يشعر بأنه يفقد السيطرة على نفسه.
      • قد يقوم بتكرار عبارات معينة أو طقوس لوقف تدفق الأفكار السلبية.

كيف يؤثر ذلك؟

هذا الاعتقاد يزيد من القلق والإحباط لدى المريض، حيث أن محاولة قمع الأفكار غالبًا ما تجعلها أقوى.


7. تضخيم المسؤولية الأخلاقية (Moral Responsibility)

يرى المريض نفسه مسؤولًا عن الالتزام بمعايير أخلاقية عالية جدًا، ويشعر بالذنب الشديد إذا فشل في تحقيقها.

أمثلة:

      • إذا لم يقدم المساعدة لشخص يحتاجها، قد يشعر أنه شخص أناني وغير أخلاقي.
      • يعتقد أنه إذا كذب في موقف بسيط، فهو شخص سيئ بشكل عام.

كيف يؤثر ذلك؟

هذا الاعتقاد يؤدي إلى القلق المفرط والشعور الدائم بالذنب، مما يزيد من الطقوس أو السلوكيات القهرية التي تهدف إلى “تصحيح” الأخطاء.


كيف تؤثر هذه المعتقدات على الحياة اليومية لمرضى الوسواس القهري؟

تؤدي هذه المعتقدات إلى تضخيم الوساوس والسلوكيات القهرية، مما يجعل المريض عالقًا في دائرة مغلقة. على سبيل المثال:

      1. الوساوس: فكرة مقلقة، مثل “قد أنقل مرضًا لشخص آخر.”
      2. القلق: شعور شديد بالخوف من حدوث الكارثة.
      3. السلوك القهري: غسل اليدين بشكل مفرط لتخفيف القلق.
      4. الراحة المؤقتة: تخفيف القلق لفترة قصيرة، لكن الفكرة تعود بسرعة.

العلاج والتعامل مع المعتقدات المعرفية

1. العلاج السلوكي المعرفي (CBT)

      • التحدي المعرفي: مساعدة المريض على تحليل معتقداته واختبار مدى واقعيتها.
      • تعريض ومنع الاستجابة (ERP): تعريض المريض تدريجيًا للمواقف التي يخاف منها مع منعه من القيام بالسلوكيات القهرية.

2. تقنيات الاسترخاء والتأمل

تساعد تمارين التنفس والتأمل في تقليل التوتر وتحسين التحكم في الأفكار.

3. الأدوية النفسية

مثل مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية (SSRIs)، التي تساعد في تقليل أعراض الوسواس القهري.

4. الدعم الاجتماعي

تشجيع العائلة والأصدقاء للمساعدة في كسر دائرة الوسواس والسلوك القهري.


الخاتمة

المعتقدات المعرفية لدى مرضى اضطراب الوسواس القهري تُعتبر حجر الأساس لفهم هذا الاضطراب والتعامل معه. على الرغم من صعوبة السيطرة على الوساوس والسلوكيات القهرية، إلا أن العلاج المناسب والدعم النفسي يمكن أن يحقق تقدمًا كبيرًا في تحسين حياة المريض ومساعدته على التحرر من دائرة القلق والتوتر.

لا تعليق

اترك رد