"العلاج السلوكي الجدلي: الأمل لمرضى اضطراب الشخصية الحدية"

اضطراب الشخصية الحدية (Borderline Personality Disorder – BPD) هو أحد أكثر الاضطرابات النفسية تعقيدًا وتأثيرًا على الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية. يعاني المصابون به من تقلبات مزاجية شديدة، خوف مفرط من الهجر، سلوكيات اندفاعية، وصعوبة في تنظيم المشاعر. وعلى الرغم من صعوبة الأعراض، إلا أن الأمل موجود، ويتمثل بشكل خاص في العلاج السلوكي الجدلي، وهو واحد من أنجح أساليب العلاج النفسي الحديثة لهذا الاضطراب.


ما هو العلاج السلوكي الجدلي؟

العلاج السلوكي الجدلي (Dialectical Behavior Therapy – DBT) هو نوع من العلاج النفسي طُوّر في الأصل من قبل الدكتورة مارشا لينهانفي تسعينيات القرن الماضي خصيصًا لعلاج الأشخاص المصابين باضطراب الشخصية الحدية.
يعتمد DBT على مزيج من أساليب العلاج السلوكي المعرفي من جهة، ومهارات القبول واليقظة الذهنية (Mindfulness) من جهة أخرى. كما يدمج بين التغيير والقبول، وهو ما يُعتبر حجر الأساس لهذا العلاج.


لماذا يعد هذا العلاج مختلفًا؟

ما يميز العلاج السلوكي الجدلي عن غيره هو أنه لا يُركّز فقط على “تغيير” سلوكيات المريض، بل يعترف أيضًا بأن كثيرًا من معاناته لها أسباب مفهومة، وأن الشعور بالألم لا يعني أن هناك خللاً داخليًا في الشخص.
بمعنى آخر، هو علاج يُخاطب الإنسان، لا الاضطراب فقط.
كما يتميز DBT ببنائه الهيكلي، إذ يشمل:

      • جلسات فردية أسبوعية

      • مجموعات تدريبية لتعليم مهارات محددة

      • دعم بين الجلسات (عند الحاجة)

      • إشراف داخلي للفريق العلاجي


المهارات الأساسية التي يركز عليها العلاج السلوكي الجدلي

1. اليقظة الذهنية (Mindfulness)

هي القدرة على البقاء حاضرًا في اللحظة دون إصدار أحكام.
يتعلم المريض أن يراقب أفكاره ومشاعره دون أن ينجرف معها أو يحكم على نفسه بسببها.

2. تحمّل الضيق (Distress Tolerance)

تهدف إلى تعليم المريض كيف يتعامل مع المواقف الصعبة دون أن يلجأ لسلوك مدمر (مثل إيذاء النفس أو الإدمان).
يشمل هذا تعلم تقنيات مثل: التنفس، الانسحاب الآمن من الموقف، واستخدام أدوات الحواس للتهدئة.

3. تنظيم المشاعر (Emotion Regulation)

يساعد المريض على فهم عواطفه، والتقليل من شدة التفاعل العاطفي، وتحديد ما إذا كانت المشاعر متناسبة مع الموقف أم لا.

4. فعالية العلاقات (Interpersonal Effectiveness)

تُعلّم الشخص كيف يُعبّر عن احتياجاته، يضع حدودًا صحية، ويتعامل مع الآخرين بطريقة تحافظ على احترامه لنفسه وعلاقاته.


هل العلاج السلوكي الجدلي فعّال؟

تشير الأبحاث إلى أن DBT هو أحد أكثر العلاجات فعالية في تقليل الأعراض الشديدة المرتبطة باضطراب الشخصية الحدية، مثل:

      • محاولات إيذاء النفس والانتحار

      • الاندفاعية والسلوكيات الخطرة

      • التقلبات العاطفية الحادة

      • المشاكل في العلاقات

وقد أظهرت دراسات طويلة المدى أن الأشخاص الذين يخضعون لهذا العلاج يحققون تحسنًا ملحوظًا في نوعية حياتهم، وغالبًا ما تقل حاجتهم لدخول المستشفيات أو تناول أدوية نفسية بكميات كبيرة.


لمن يُناسب هذا العلاج؟

العلاج السلوكي الجدلي مفيد بشكل خاص للأشخاص الذين:

      • يعانون من اضطراب الشخصية الحدية

      • لديهم تاريخ مع إيذاء النفس أو الأفكار الانتحارية

      • يجدون صعوبة في تنظيم مشاعرهم

      • يتعرضون لنوبات غضب أو حزن حادة وغير مفهومة

      • يشعرون بفراغ داخلي دائم

      • يعانون من مشاكل متكررة في العلاقات الشخصية

لكن DBT ليس مقتصرًا على اضطراب الشخصية الحدية فقط، بل أثبت فعاليته أيضًا في حالات مثل:

      • اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)

      • اضطرابات الأكل

      • اضطرابات الإدمان

      • الاكتئاب المقاوم للعلاج


تحديات تواجه العلاج

رغم فعالية العلاج السلوكي الجدلي، إلا أنه ليس سهلًا دائمًا. فهو:

      • يتطلب التزامًا طويل الأمد (غالبًا من 6 أشهر إلى سنة أو أكثر)

      • يحتاج إلى حضور منتظم للجلسات الفردية والجماعية

      • يحتاج إلى بيئة داعمة خارج العلاج

      • يعتمد على وجود معالج مُدرَّب جيدًا على هذا النموذج العلاجي

ومع ذلك، فإن الكثير من المرضى الذين يستمرون في العلاج يصفون DBT بأنه نقطة التحول في حياتهم.


ماذا يمكن أن تتوقع من جلسات DBT؟

في البداية، يقوم المعالج بتقييم شامل لحالة الشخص، ويشرح له طبيعة العلاج.
ثم تُبنى الجلسات بشكل تدريجي وتشمل:

      • العمل على تقليل السلوكيات الانتحارية أو المدمّرة

      • تعلم المهارات الأربع الأساسية

      • مراجعة السلوكيات الأسبوعية من خلال “سجل السلوكيات” (Diary Card)

      • تحديد أهداف واقعية قابلة للتنفيذ

يتم العمل في جو من القبول والتعاون، حيث لا يُفرض على المريض التغيير بالقوة، بل يُشجَّع على اتخاذ قرارات واعية تساعده على تحسين حياته.


قصص واقعية تعكس الأمل

العديد من الأشخاص الذين مرّوا بتجربة العلاج السلوكي الجدلي تحدثوا عن تحول كبير في حياتهم.
منهم من استطاع التخلص من إيذاء النفس، ومنهم من بدأ ببناء علاقات أكثر توازنًا، ومنهم من شعر لأول مرة في حياته أنه “مفهوم ومقبول”.


الخلاصة

اضطراب الشخصية الحدية ليس حكمًا بالإعدام على حياة صحية أو مستقرة.
صحيح أنه اضطراب معقّد، لكن بوجود العلاج المناسب، مثل العلاج السلوكي الجدلي (DBT)، يمكن للمصاب أن يستعيد السيطرة على حياته، أن يتصالح مع مشاعره، وأن يبني علاقات أكثر أمانًا واتزانًا.

هذا العلاج لا يعد فقط “علاجًا”، بل أملًا حقيقيًا لكل من يشعر بأن حياته تقع دائمًا على الحافة.

لا تعليق

اترك رد