يُعد اضطراب الشخصية الحدية (BPD – Borderline Personality Disorder) واحدًا من أكثر الاضطرابات النفسية التي يُساء فهمها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالنساء. ففي الوقت الذي تُظهر فيه الإحصاءات أن نسبة الإصابة بالاضطراب في صفوف النساء أعلى منها بين الرجال، تظهر أيضًا أنماط فريدة في أعراض النساء وتأثيراتهن الاجتماعية والنفسية، ما يجعل فهم هذا الاضطراب في السياق الأنثوي ضرورة ملحّة.
ما هو اضطراب الشخصية الحدية؟
اضطراب الشخصية الحدية هو اضطراب نفسي يتّسم بعدم الاستقرار العاطفي، صورة الذات المهتزّة، سلوكيات اندفاعية، وعلاقات متقلّبة. المصاب بهذا الاضطراب يعاني من صعوبات حادة في تنظيم العواطف والتعامل مع الرفض أو الفقد، مما يجعله عُرضة لنوبات من الغضب أو الاكتئاب أو حتى إيذاء النفس.
لماذا يُشخَّص أكثر عند النساء؟
تشير الدراسات إلى أن نحو 75% من الحالات المشخصة باضطراب الشخصية الحدية هن نساء. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن النساء يصبن به أكثر من الرجال، بل قد يكون:
-
-
-
بسبب تحيّزات في التشخيص (الرجال يُشخّصون بأعراض مشابهة تحت تسميات مختلفة كاضطراب الشخصية المعادية للمجتمع)
-
أو لأن النساء أكثر طلبًا للمساعدة النفسية
-
أو لأن أعراضهن تأخذ طابعًا أكثر دراماتيكية، ما يلفت الانتباه سريعًا
-
-
ملامح خاصة لاضطراب الشخصية الحدية عند النساء
1. عاطفية مفرطة وحساسية شديدة للعلاقات
النساء المصابات باضطراب الشخصية الحدية يُظهرن حساسية عالية تجاه العلاقات، خصوصًا الرومانسية. قد يشعرن بهجر أو خيانة حتى في غياب دليل واقعي، ويتحول ذلك إلى نوبات غضب أو حزن عميق.
2. تقلّب بين المثالية والعداء
في العلاقة الواحدة، قد ترى المرأة المصابة بـBPD شريكها في لحظة “كل شيء في حياتها”، ثم فجأة “عدوًا خانها”. هذا التقلّب غالبًا ما يكون نتيجة لخوف داخلي من الفقد أو خذلان متكرر.
3. سلوكيات إيذاء الذات
تشير الدراسات إلى أن النساء المصابات بـBPD أكثر عرضة للانخراط في سلوكيات مثل:
-
-
-
إيذاء النفس (جرح الجلد، الحرق)
-
اضطرابات الأكل (مثل الشره أو التجويع)
-
محاولات انتحار متكررة أو تهديد بها كوسيلة للتعبير عن الألم
-
-
4. اعتمادية عاطفية مفرطة
قد تظهر المرأة المصابة بهذا الاضطراب احتياجًا شديدًا للدعم العاطفي المستمر، وتجد صعوبة في تحمّل الوحدة، ما يجعلها عرضة للدخول في علاقات مؤذية أو الاعتماد الكامل على الآخرين.
5. اضطراب في صورة الذات
غالبًا ما تعاني هؤلاء النساء من شعور داخلي بعدم معرفة “من هن”. قد يتغير تصورهن عن أنفسهن، أهدافهن، ميولهن، وهوياتهن بسرعة، مما يسبب لهن ضياعًا داخليًا.
تأثيرات اجتماعية وعاطفية على النساء المصابات
1. وصمة مجتمعية مضاعفة
المرأة في مجتمعاتنا غالبًا ما تُتوقع منها أن تكون هادئة، متزنة، ومتحكمة في عواطفها. لذلك حين تُظهر تقلبًا أو غضبًا أو حساسية زائدة، تُواجه بنظرات الاستهزاء أو النبذ. هذا يزيد من شعورها بالخجل، والوصمة، والانعزال.
2. علاقات مضطربة
النساء المصابات بـBPD غالبًا ما يخضن علاقات عاطفية مضطربة أو مؤذية. قد يدخلن في علاقات سامة، أو يهربن منها بشكل مفاجئ، أو يبدأن سلسلة من العلاقات القصيرة التي تنتهي بخيبة.
3. صعوبات في الأمومة
إن كنتِ أمًا وتعانين من اضطراب الشخصية الحدية، فقد تواجهين صعوبات في تربية الأبناء بسبب الانفعالات السريعة أو الشعور المتكرر بالذنب، ما يخلق ضغطًا نفسيًا مزدوجًا.
4. مشاكل في العمل والتعليم
التقلبات العاطفية والاندفاعية قد تعيق المرأة عن الاستقرار في وظيفة أو إتمام تعليمها، مما يؤثر على فرصها الاقتصادية والاجتماعية ويزيد من اعتمادها على الآخرين.
هل من أمل؟ العلاج والتعافي مُمكن
رغم أن اضطراب الشخصية الحدية يبدو معقدًا، إلا أن النساء يستجبن بشكل جيد للعلاج، خاصةً:
1. العلاج السلوكي الجدلي (DBT)
يُعتبر الخيار العلاجي الأول، حيث يُركّز على تعليم المرأة كيفية تنظيم عواطفها، وتحمّل الألم دون إيذاء النفس، وتحسين العلاقات.
2. العلاج النفسي الفردي
يساعد على فهم الجذور النفسية العميقة للاضطراب، وغالبًا ما يُكشف خلاله عن تجارب مؤلمة في الطفولة مثل الإهمال أو سوء المعاملة.
3. الأدوية
رغم أن BPD لا يُعالج بالأدوية بشكل مباشر، إلا أن بعض الأعراض (كالقلق، الاكتئاب، أو نوبات الغضب) قد تتحسن بالأدوية النفسية المناسبة.
4. الدعم الأسري والمجتمعي
وجود عائلة متفهمة، وشبكة دعم غير مُحكمة الأحكام، يمكن أن يُحدث فرقًا هائلًا في رحلة المرأة نحو الشفاء.
خطوات عملية للنساء المصابات بالاضطراب
-
-
-
تعلمي عن الاضطراب: الفهم العميق لما تمرين به يخفف من الشعور بالذنب ويزيد من قدرتك على المواجهة.
-
ضعي خطة لإدارة المشاعر: تعرفي على “الزناد” الذي يثير نوباتك، واستعدي له مسبقًا.
-
لا تخجلي من طلب المساعدة: سواء من طبيب، معالج، أو حتى صديقة موثوقة.
-
اهتمي بجسمك: النوم، الأكل الصحي، الرياضة البسيطة… أدوات فعالة أكثر مما نظن.
-
سامحي نفسك: أنتِ لستِ “مجنونة” أو “ضعيفة”، بل إنسانة حساسة تحاول أن تفهم نفسها وتنجو.
-
-
خاتمة
اضطراب الشخصية الحدية عند النساء ليس وصمة ولا عيبًا، بل هو جرح داخلي يحتاج للرعاية والاهتمام.
المرأة المصابة بـBPD ليست ضعيفة، بل تعاني من شدة المشاعر وعمق الإحساس. ومع الفهم الصحيح والدعم المناسب، يمكنها أن تتعلم كيف تحوّل هذا الألم إلى قوة، وهذا الاضطراب إلى طريق للوعي والشفاء.
لأنكِ تستحقين أن تُفهَمي… وتُشفَي… وتُحبّي، كما أنتِ.

لا تعليق